طقوس منزلية وعروض إلكترونية.. كيف غيرت المنصات الرقمية أجواء الكريسماس؟

طقوس منزلية وعروض إلكترونية.. كيف غيرت المنصات الرقمية أجواء الكريسماس؟
أجواء الكريسماس

شهدت الاحتفالات بعيد الميلاد "الكريسماس" في السنوات الماضية تحولات كبيرة في طابعها وممارساتها، حيث لم تعد تقتصر على الطقوس الأسرية التقليدية، بل أصبحت ظاهرة تشاركية واسعة النطاق على منصات التواصل الاجتماعي. 

يشير هذا التحول إلى تغييرات عميقة في كيفية فهم المجتمعات لهذه المناسبة، وفي أنماط التعبير عنها، ما يثير تساؤلات حول تأثير التكنولوجيا على الروابط الأسرية، والقيم الاجتماعية، والاقتصاد، وحتى الدين والثقافة.

تشير دراسة أجرتها مؤسسة "Pew Research Center" في ديسمبر 2023 إلى أن 65% من المحتفلين بالكريسماس يشاركون لحظاتهم الاحتفالية عبر منصات التواصل الاجتماعي مثل إنستغرام وتيك توك وفيسبوك، هذه النسبة تمثل قفزة كبيرة مقارنة بعام 2015، عندما كان هذا الرقم لا يتجاوز 38%. الانتقال من التجمعات العائلية المغلقة إلى المشاركة العلنية عبر الإنترنت يعكس نزعة متزايدة نحو إضفاء الطابع العلني على المناسبات الشخصية.

ومع ذلك، فإن هذه النزعة تثير جدلاً حول تأثيرها على جودة التفاعل داخل الأسرة، فوفقًا لدراسة صادرة عن جامعة ستانفورد في 2022، أفاد 52% من المشاركين بأن الاعتماد على الهواتف المحمولة لتوثيق لحظات الكريسماس أدى إلى تقليل التفاعل الوجاهي مع أفراد الأسرة.

وتعزز وسائل التواصل الشعور بالتقارب المجتمعي في ظل عالم يزداد ترابطًا، حيث أظهر تقرير صادر عن "Global Web Index" لعام 2023 أن 62% من المستخدمين يعتقدون أن مشاركة صور وفيديوهات الكريسماس تجعلهم يشعرون بالقرب من أصدقائهم وأقاربهم الذين يعيشون بعيدًا، ولكن هذه الديناميكية تحمل تناقضًا ضمنيًا، فبينما تُقرب التكنولوجيا البعيد، قد تُبعد القريب من خلال انشغال الأفراد بتوثيق اللحظة بدلاً من عيشها، علاوة على ذلك، أظهرت الدراسة أن 45% من المستخدمين يشعرون بأن هذه المشاركات تفرض ضغطًا عليهم لتقديم صورة مثالية عن احتفالاتهم، ما يؤدي إلى توتر نفسي وإرهاق مالي.

اقتصاديًا، أدى التحول الرقمي للاحتفالات إلى تغييرات كبيرة في أنماط الاستهلاك، وكشف تقرير صادر عن شركة "McKinsey & Company" أن الإنفاق العالمي على مستلزمات الكريسماس، بما في ذلك الزينة والهدايا، زاد بنسبة 25% في عام 2022 مقارنة بعام 2019، ومن المثير للاهتمام أن 68% من هذا الإنفاق كان مدفوعًا برغبة المستخدمين في تحسين جودة الصور التي يشاركونها على الإنترنت. 

وفي حين أن هذا الاتجاه يعكس تنامي دور "اقتصاد الاستعراض"، فإنه يسلط الضوء أيضًا على فجوة اقتصادية متزايدة، ففي الوقت الذي ينفق فيه البعض مئات الدولارات على زينة موسمية، تُظهر تقارير منظمة "أوكسفام" لعام 2023 أن 15% من سكان العالم لا يستطيعون توفير احتياجاتهم الأساسية خلال موسم الأعياد. 

ويثير هذا التباين الحاد أسئلة جوهرية حول عدالة توزيع الموارد ومدى توافق القيم التي يُفترض أن يعززها الكريسماس مع الواقع الاقتصادي.

الكريسماس كمناسبة دينية

وتُظهر الإحصائيات أن وسائل التواصل الاجتماعي أسهمت في إعادة تشكيل المعاني المرتبطة بالكريسماس، وكشفت دراسة أجرتها مجموعة "Barna Group" في عام 2023 أن 34% فقط من الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و30 عامًا ينظرون إلى الكريسماس كمناسبة دينية، بينما يعتبره 46% منهم فرصة للاحتفال والترفيه.

ويعكس هذا التحول تراجعًا في الطابع الروحي للعيد لصالح قيم مادية وتجارية، ومن اللافت أن نفس الدراسة كشفت أن 58% من المحتفلين بالكريسماس يخصصون وقتًا أقل للطقوس الدينية مقارنة بما كان عليه الحال قبل عقد من الزمن، هذا الاتجاه يعكس تأثيرًا ثقافيًا عميقًا لمنصات التواصل الاجتماعي التي تسلط الضوء بشكل أكبر على الجوانب الترفيهية والبصرية للمناسبة.

وأظهرت دراسة صادرة عن "Kaspersky" في ديسمبر 2022 أن موسم الكريسماس يشهد زيادة بنسبة 30% في حوادث الاختراق الإلكتروني مقارنة ببقية أشهر السنة، حيث تُستغل بيانات المستخدمين الشخصية التي تُشارك على نطاق واسع خلال الاحتفالات، هذا الجانب المظلم للتحول الرقمي يشكل تحديًا للأمان الرقمي، ويضع الأفراد أمام معضلة التوازن بين الرغبة في المشاركة والتواصل، والحفاظ على الخصوصية.

ورغم التحديات، فقد أتاحت وسائل التواصل الاجتماعي فرصًا جديدة للإبداع والتواصل، وأظهرت بيانات صادرة عن "Adobe Analytics" أن مقاطع الفيديو القصيرة المرتبطة بالكريسماس شهدت نموًا بنسبة 70% في عام 2023، وقد أصبحت هذه المقاطع وسيلة شائعة للتعبير عن البهجة والاحتفال، ما يعكس قدرة التكنولوجيا على تمكين الأفراد من ابتكار أشكال جديدة من الاحتفال تتجاوز الحدود التقليدية.

ووجدت دراسة أجرتها "Harvard Business Review" في عام 2022 أن 48% من المستخدمين يشعرون بضغط نفسي خلال موسم الكريسماس بسبب التوقعات العالية التي تفرضها معايير وسائل التواصل الاجتماعي، يشمل ذلك جودة الصور، وطبيعة الهدايا، وحتى تصميم ديكور المنازل، هذه الضغوط تؤدي إلى تفاقم مشاعر العزلة لدى الأفراد الذين لا يستطيعون مجاراة هذا “السباق الرقمي”.

ويرى خبراء أن التحول الرقمي لطقوس الكريسماس يمثل ظاهرة تعكس التحولات الأعمق التي تمر بها المجتمعات في العصر الرقمي، وبينما يقدم هذا التحول فرصًا لتعزيز الترابط الاجتماعي والتعبير الإبداعي، فإنه يثير تحديات تتعلق بالضغط النفسي، وتفاقم الفجوة الاقتصادية، وفقدان الطابع الروحي والإنساني للمناسبة، يبقى السؤال الأهم: كيف يمكننا توظيف التكنولوجيا لخدمة القيم الأصيلة التي يُفترض أن يُجسدها الكريسماس؟

الخصوصية الرقمية وتآكل القيم الإنسانية

وقال خبير علم الاجتماع، طه أبوالحسن، إن تحول طقوس الكريسماس من تقاليد أسرية إلى احتفالات تشاركية على منصات التواصل الاجتماعي يثير قضايا حقوقية واجتماعية عميقة، ترتبط بالكرامة الإنسانية وحرية الاختيار والخصوصية في جوهره، الكريسماس ليس مجرد احتفال، بل هو انعكاس للعلاقات الأسرية الدافئة وقيم المحبة والكرم. ومع ذلك، نجد اليوم أن هذا الطابع التقليدي يتعرض لضغوط التغيير بسبب هيمنة العالم الرقمي، ما يؤدي إلى تفكك بعض المعاني الأساسية لهذه الطقوس.

وتابع أبوالحسن، في تصريحات لـ"جسور بوست"، أنه من الضروري أن ننظر إلى هذا التحول من زاوية الحق في المشاركة الثقافية كما تضمنته المادة 27 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. التفاعل الرقمي مع طقوس الكريسماس قد يبدو وسيلة لتعزيز المشاركة الاجتماعية وتوسيع دوائر الاحتفال لتشمل من هم بعيدون جغرافيًا لكنه في الوقت ذاته يضعف الجوهر الحقيقي للاحتفال عندما يتحول إلى مجرد محتوى رقمي يهدف إلى جذب الإعجابات والتعليقات، هذا التغيير يضعنا أمام معضلة تتعلق بمدى قدرتنا على حماية القيم الإنسانية لهذه الطقوس من تسليعها وتحويلها إلى مجرد أدوات للظهور الاجتماعي.

وقال: إن هذا التحول يشكل خطرًا على الحق في الخصوصية، وهو حق أصيل نصت عليه المادة 12 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، المشاركة التشاركية لطقوس الكريسماس عبر منصات التواصل الاجتماعي قد تؤدي إلى كشف تفاصيل شخصية عن حياة الأفراد دون إدراك كامل للعواقب، في كثير من الأحيان، يشعر الناس بأنهم مضطرون لمشاركة لحظات احتفالهم، ليس فقط للاحتفاظ بذكرى، بل لإظهار أنفسهم بشكل معين أمام المجتمع الرقمي، هذه الديناميكية تضغط على الأفراد للتخلي عن جزء من خصوصيتهم، وتخلق حالة من الرقابة الذاتية المستمرة، حيث يصبح كل فعل أو صورة جزءًا من العرض العام.

واسترسل، أن الأطفال يشكلون جزءًا مهمًا من هذه الطقوس، وتحولهم إلى عنصر في المحتوى الرقمي يثير قضايا حقوقية جدية تتعلق بحقوق الطفل، كما نصت عليها اتفاقية حقوق الطفل، عندما تُستخدم صور الأطفال كوسيلة لتعزيز شعبية منشورات الكريسماس، فإن ذلك يُعرضهم لمخاطر عدة، منها استغلال صورهم بطرق غير أخلاقية أو تعرضهم لتقييمات مجتمعية قد تؤثر على تقديرهم لذاتهم، الأطفال ليسوا أدوات لتجميل مشهد الكريسماس الرقمي، بل هم أفراد لهم حقوقهم في الخصوصية والحماية، ومن الزاوية الاقتصادية والاجتماعية.

وتابع: يظهر تحول الكريسماس إلى احتفال رقمي أنه قد يُفاقم الفجوات الاجتماعية والاقتصادية، منصات التواصل الاجتماعي غالبًا ما تسلط الضوء على الطقوس المادية، من الهدايا الفاخرة إلى الزينة الباهظة، ما قد يُشعر أولئك الذين لا يستطيعون تحمل تكاليف هذه المظاهر بالتهميش، هذا التناقض يتعارض مع قيم الكريسماس الأساسية مثل التضامن والتكافل، ويُبرز الحاجة إلى إعادة التفكير في الكيفية التي تُعرض بها هذه الطقوس على المنصات الرقمية.

ومن ناحية الهوية الثقافية، قال إن الاعتماد على وسائل التواصل الاجتماعي في إحياء طقوس الكريسماس يثير تساؤلات حول مدى تأثير العولمة الرقمية على الخصوصية الثقافية، الاحتفالات التشاركية تميل إلى اعتماد صيغ موحدة ومشتركة للطقوس، ما قد يؤدي إلى تآكل التنوع الثقافي وإضعاف الروابط العائلية التي كانت تُشكل جوهر هذه الطقوس، المادة 15 من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية تؤكد ضرورة حماية الهوية الثقافية وضمان استمرارها، وهو ما يبدو مهددًا في ظل التحول إلى الاحتفالات الرقمية الموحدة.

وقال إنه في السياق الحقوقي الأوسع، يمكن النظر إلى هذا التحول على أنه يعكس تغيّرًا في موازين القوى الاجتماعية والثقافية، حيث تزداد هيمنة الشركات التقنية على جوانب حياتنا اليومية، بما في ذلك أكثر اللحظات خصوصية وإنسانية، منصات التواصل الاجتماعي، التي تعتمد على استثمار تفاعل الأفراد لتحقيق أرباح مالية، قد تكون شريكًا في تحويل الكريسماس إلى مناسبة تُستهلك فيها القيم بدلًا من تعزيزها لذلك.الاقتصاد الرقمي يغير ملامح الكريسماس

وقال الخبير الاقتصادي، رشاد عبده، إن دراسة تحول طقوس الكريسماس من تقاليد أسرية إلى احتفالات تشاركية على منصات التواصل الاجتماعي تسلط الضوء على تغييرات اقتصادية متشابكة لا يمكن تجاهلها، فاستبدال التجمعات الأسرية التقليدية بالاحتفالات الافتراضية يخلق تحولات في أنماط الإنفاق، حيث تشير الأرقام إلى أن حوالي 68% من المستهلكين في الأسواق الرئيسية ينفقون الآن أكثر على المحتوى الرقمي والهدايا الافتراضية مقارنة بما كانوا يخصصونه سابقاً للتجمعات العائلية والمشتريات التقليدية، هذه الظاهرة تشير إلى إعادة توزيع واضحة للنشاط الاقتصادي من الاقتصاد المحلي المتمثل في المتاجر الصغيرة والأسواق التقليدية إلى المنصات الرقمية العالمية.

وتابع عبده، في تصريحات لـ"جسور بوست"، من الجانب الإيجابي، فإن هذه التغيرات خلقت فرصاً جديدة للتوسع الاقتصادي الرقمي على سبيل المثال، زاد الإنفاق على الإعلانات الرقمية بنسبة 25% في موسم الكريسماس الماضي، ما يعكس طلباً متزايداً على الخدمات الرقمية مثل إنشاء المحتوى الترويجي وبث الاحتفالات المباشرة في المقابل، فإن هذا التحول له تكلفة اقتصادية واضحة على المستوى المحلي، حيث تشهد العديد من الصناعات التقليدية، مثل الحرف اليدوية والمخابز المحلية، انخفاضاً في الإيرادات بنسبة تصل إلى 30% خلال مواسم الأعياد.

وأوضح الخبير الاقتصادي، أن تأثير هذه الظاهرة يتجاوز الإنفاق إلى مفاهيم القيمة الاقتصادية، إن إهمال الطقوس الأسرية التقليدية يمكن أن يُضعف الطلب على بعض المنتجات والخدمات التي تعتمد على هذه الطقوس، مثل المأكولات الموسمية والهدايا الحسية، ما يؤثر بشكل مباشر على الصناعات ذات الصلة. في الوقت ذاته، فإن الاعتماد المتزايد على المنصات الرقمية يركز الثروة في أيدي عدد قليل من الشركات الكبرى، ما يساهم في تعزيز انعدام المساواة الاقتصادية بين الشركات الصغيرة والكبيرة، ولا يمكن إغفال الآثار الاقتصادية بعيدة المدى للتحول الثقافي الذي تشهده طقوس الكريسماس، فعندما يتحول الاحتفال إلى تجربة تُبث وتُستهلك رقمياً، يصبح التركيز أكثر على الإنتاج البصري والجاذبية الإعلامية بدلاً من القيم التقليدية للدفء العائلي والتواصل المباشر.

واسترسل، أنه بهذا تنمو قطاعات مثل تجارة الزينة الافتراضية، والتطبيقات التي تقدم تجارب احتفالية شخصية، حيث شهدت الأخيرة زيادة في المبيعات بنسبة 40% خلال العام الماضي، لكن هذه المكاسب غالباً ما تأتي على حساب القيم غير المادية، ما يطرح سؤالاً مهماً حول مدى استدامة هذا النمو الاقتصادي المبني على التغيرات الثقافية.

وعلى الصعيد النقدي، قال: يعكس التحول زيادة الإنفاق الفردي في بيئات الإنترنت، حيث بلغ متوسط الإنفاق على الهدايا الافتراضية وحدها حوالي 50 دولاراً للفرد في الأسواق المتقدمة، هذه التغيرات تسهم في تعزيز ما يُعرف باقتصاد التجربة، حيث تُقيم السلع والخدمات على أساس التجربة التي توفرها للمستهلك بدلاً من وظيفتها التقليدية. ومع ذلك، فإن التركيز على التجارب الرقمية يثير قلقاً بشأن استدامة الطلب على المنتجات التقليدية والخدمات الملموسة، ما قد يؤدي إلى فقدان توازن الأسواق في المستقبل.

وأكد أن التحليل الاقتصادي لهذه الظاهرة يجب أن يأخذ بعين الاعتبار التحديات المرتبطة بتركز الثروة في المنصات الرقمية الكبيرة، والتأثيرات السلبية على الصناعات المحلية، بالإضافة إلى الحاجة لتطوير سياسات اقتصادية توازن بين دعم الابتكار الرقمي وحماية الصناعات التقليدية، هذا يتطلب تعزيز الاستثمار في التكنولوجيا من قبل الشركات الصغيرة والمتوسطة، وتشجيع السياسات التي تحفز الإنفاق المحلي خلال المواسم الاحتفالية.

وأتم، فإن التحول من الطقوس الأسرية إلى الاحتفالات التشاركية الرقمية يعكس تغيراً أوسع في بنية الاقتصاد الثقافي والاجتماعي، ما يتطلب استجابات اقتصادية مبتكرة لضمان أن هذا التحول يسهم في تحقيق نمو شامل ومستدام دون التضحية بالقيم التقليدية.

 

 

 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية